graphic artists in the arab countries

Toshfesh
الجناح اللبناني في بينالي البندقية... وبيروت بطلة تجهيز أيمن بعلبكي

يستمر الجناح اللبناني، وهو يقام في القاعة التاريخية "الارسنال"، ضمن نشاطات المعرض العالمي التاسع والخمسين للفن المعاصر (بينالي- البندقية)، بجذب المتذوقين والمستثمرين في قطاع الفنون من أنحاء العالم (يستمر لغاية 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2022).

استطاعت المفوضة العامة للجناح السيدة ندى غندور أن تجمع سياقات لتجارب فنية بصرية لثلاثة فنانين كوجه آخر لتداعيات فنون ما بعد زلزال انفجار مرفأ بيروت. ينطلق الجناح اللبناني من تجهيز نصب "بوابة يانوس" لأيمن بعلبكي يصاحبه فيلم وثائقي عن جولة في شوارع بيروت بعنوان "آلو حبيبتي" للمخرجة السينمائية وصانعة الأفلام التسجيلية دانيال عربيد، وفق تصوّر سينوغرافي لافت حققته المهندسة ألين أسمر دامان يسمح بالتجوال داخل المَعلم (على امتداد 150 متراً مربعاً) المغطى بألواح منحنية مطلية بنسيج خراساني يشير إلى مدينة تشهد عمليات إعادة بناء دائمة.

على ضوء الخيال الذي بات ملهماً لحياتنا اليومية ويغذيها بالتصورات، صممت المهندسة ألين أسمر دامان الجناح اللبناني على شكل "صدفة بيضاوية صلبة"، تعكس "آثار ما خلفته سنوات الحروب والإهمال على مواقع معمارية هامة، مبنى البيضة وسط بيروت لجوزف فيليب كرم ومبنى معرض رشيد كرامي الدولي الذي صممه أوسكار نيماير في مدينة طرابلس". هكذا حققت المهندسة ألين أسمر دامان صياغة مشهدية لنتاج فني - بصري يروي حكايات ما بعد الخراب فيما هو متخيل وواقعي وتسجيلي وتوثيقي وتعبيري. حكايات تكشف في مجملها عن مواجهة كسور الذاكرة وحطامها كوجود نقي يعبر عن مقولة ألبير كامو "الحياة كالكائنات الحية التي تتشابه تحت خطوط الزوال".

العالم على صورة الإنسان
في هذا المشروع المتمحور حول موضوع "العالم على صورة الإنسان"، ثمة دعوة إلى رحلةٍ رمزية في عالمنا المعاصر من خلال الحكاية التي يغزل خيوطها كلٌ من دانيال عربيد وأيمن بعلبكي اللذين اختارا بيروت الحضارة المتعددة الأوجه والأمكنة والأزمنة موضوعاً للتأمل والإبداع ومكاناً مشتركاً للإنسانية جمعاء. وهما يحافظان من بُعد على تبادل الحوار السياسي والجمالي، من خلال أعمال بصرية هي بين الواقعي والافتراضي تعكس اضطرابات الأزمة العالمية وعدم الاستقرار العاطفي والعلاقة بتكنولوجيا العصر.
ويُمكن يُفسَّر البعد السياسي لهذين العملين على ضوء الوضع الراهن في لبنان بكل تمزقاته وأزماته المعيشية الخانقة. فيقترن السباق المحموم إلى جني الأموال بالعنف الذي يحتدم اليوم في البلد المنهوب. أمّا المضاربة العقارية التي تَعِد بالأحلام فتخفي الهلاك وتضللّ المشتري. فالناس والشارع هما المعنى الشعري العميق في التنقيب عن الوجع الإنساني.

يستقبل الزائر لقاعة "الارسنال" العمل التجهيزي الضخم الذي أعده أيمن بعلبكي، قبل أن يلفت انتباهه على الجهة المقابلة الشاشة التي تعرض الفيلم الوثائقي "آلو حبيبتي"، الذي يجمع في تسميته تداعيات أغنية صباح في الستينات "آلو بيروت" ومسلسل "آلو حياتي" للثنائي هند أبي اللمع وعبدالمجيد مجذوب في السبعينات. وهو عبارة عن جولة في السيارة في احياء بيروت وشوارعها على وقع مقاطع مسجلة بصوت شخصية الأم التي تشتكي من الأوضاع الحالية. تقول عربيد: "إنها أمي في الحقيقة، وهي تشبه صورة هذا البلد وتجسدّه، بعقليتها القاتلة، حبها للمخاطرة، واندفاعها للحياة. إنّها مأسورة في سباق جامح لكسب المال. إنّ كفاحها مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعنف المُسيطر في لبنان اليوم على غرار ما عاشته بلدان أخرى، في أوروبا أو أماكن أخرى".

نصب "بوابة يانوس"
تكمن نجومية الفنان أيمن بعلبكي، الذي تركز أعماله على القضايا اللبنانية والشرق أوسطية، في قدرته على إثارة الصدمة التي تنسى ولا تمحى من العين والقلب أمام مشهدية عمله التجهيزي المستوحى من بيروت "بطلة" حكاياته ومصدر ايحاءاته وسريادته وذكرياته وأحلامه منذ عقود، إن لم نقل إن هذه البطلة هي التي صنعت مجده وشهرته، لا سيما بعد حرب تموز (يوليو) 2006.

هذا الفنان الذكي والمثقف الذي تلقى منذ مراحل الطفولة حتى النضج صدمات الحروب وعاش معاناة التهجير والارتحال وتمزقات العيش بين العنف واللااستقرار، يعرف كيف يستنبط مواقع الألم وكيف يعكس التناقضات الحادة للعيش في مظاهرها وخباياها، لكأنه العين الساهرة على بيروت بتاريخها وحاضرها المديني وتمزقاتها الاجتماعية والسياسية وأبعادها الميتولوجية، وهو في بوابة يانوس، يذهب الى البعد التأويلي لفلسفة الوجود، والى حشد المزيد من الأنقاض والى أسلوب الهدم والتفكيك وإثارة الفوضى، لتثبيت فكرة ازدواجية العيش في بيروت، في مشهدية بين النقد والسخرية، والظاهر والباطن التي يمثلها "يانوس" الإله الروماني ذي الوجهين، حارس البوابة الذي ينظر إلى الداخل والخارج، الماضي والمستقبل.

ينطلق المشهد السينوغرافي من تلك الحكاية الميتولوجية، عبر يافطة بالنيون البراق تحمل اسم بوابة يانوس Janus Gate، وهي عبارة عن هيكلية متعددة الخامات تعمل على اختزال المدينة عبر فضاءات جدار أشبه بشاشة بانورامية متداخلة لبيروت، بملصقاتها السينمائية وإعلاناتها وشعاراتها التي تذكر بواجهات المباني قيد الإنشاء والمباني التي خضعت للترميم إثر انفجار مرفأ بيروت وكواليس العيش في أحزمة البؤس التي جسدها من خلال ديكور خلفي يحاكي بمحتوياته الفقيرة كوخ - بيت الحارس المتواضع الذي يرمز إلى أجندة اجتماعية وعسكرية رسمت خريطة الهجرات والتحولات الكبرى التي عرفتها حروب بيروت.

على سطوح عوارض ويافطات خشبية جسد أيمن بعلبكي مشاهد رمزية لفوضى تتحدث بلغة الأشياء الخربة. مظاهر لتآكل وخراب يتدلى على سطوح لوحة جداريه، أشبه بجدار مذبوح، مسكون برهبة الأوجاع والآلام، يطلق صرخات يد مكتومة مدوية شهدت الموت. يعتمد بعلبكي لغة العنف في التلطيخ التعبيري الذي تراه يرتج ويزحف ويخلخل سياقات هذا المدى الشاسع من فوضى الجدار وحكايات فصول كآباته اللونية التي تتحلل مثل صراخ الضحايا الذي يخترق ظلام الليل الراسخ في بوابة مدينة، أشبه بنصب ثنائي الوجه، على صورة بيروت المتأرجحة بين الماضي والمستقبل، على غرار أسطورة "الإله الروماني يانوس"، بين جحيم الحياة في بيروت ووعود إعادة أعمارها.

لا نعرف أننا لا نزال أحياء إلا عندما تنتهي الحرب، وعندما تنتهي الحرب نبدأ بتفقد ما مات منا وما زال حياً، لكننا وسط هذه الظلمة التي تزداد اتساعاً، حيث لا كهرباء في بوابة جدار "الإله يانوس" سوى هذا الوميض - الاعلاني المرتعش بعودة الإعمار (بيروت مدينة للمستقبل) الذي رافقنا طوال نكبات ونكبات كصديق. يبدو هذا الوميض الإعلاني لزمن تنهشه العتمة مثل موسيقى إشاحة النظر عن النهايات المرتقبة. وهو يدعونا الى تأمل اللطخات اللونية التي تلمع مثل شرر وتنطفئ، مثل إيقاعات تهطل وتندلق وتتراكم على امتداد سطوح الستائر المتصدعة والممزقة والمرقعة والمثقوبة. إنها أشبه بتوليف للوحة عملاقة مؤلفة من ملصقات وبقايا أقمشة وستائر من مواد مختلفة تخترقها صدوع (من إيقاعات تشكيلية فوضوية)، ومن سراب احتدام الألوان ورفات المشاعر التعبيرية الجارفة والغاضبة التي تلملم ما ترسب من يأس وخيبات، كي تكشف عن غشاوة الخراب، والموت البطيء للأشياء الذي يتماهى مع أشكال الخراب الكامنة في ستائر واجهات الأبنية المدمرة.

هاوية الخراب وحقائقها الغائمة
استطاع أيمن بعبلكي أن يعبر عن متاهات ليالي بيروت المعتمة والمتصدعة بلطخاته اللونية التي تتراءى كجروح وحروق خفية ومعلنة وصراخ يخترق معالم الحقائق وظلالها القاسية، كما لو أنه يرسم طلاسم الأشياء الآيلة الى مصيرها كبقايا متناثرة في المكان. فهي أشبه بتدفقات لمسات تعبيرية - تجريدية، تدفقات لونية تمردية تلمّ وتشمل عوالم الطاقات المعتملة داخل الفوضى وما تضمنته من بقايا أشكال لنكبات مدينة ما زالت قائمة. كما لو أنه هذا العمل التجهيزي يجاهر بما هو أبعد من النسيان وهو ينطلق من محيط الخراب، مما خلّفه منظر انفجار المرفأ من ستائر أنقاض مرتحلة موصولة بالأرض وعائمة في آن، ومن ذاكرة جراح نازفة خفية ومعلنة، وهي تكشف عن غور سحيق من هاوية الخراب وحقائقها الغائمة الدفينة، وعن مصائب طارئة صعب احتمالها، كمن يعبر بألوانه وأشكاله عن مرارة اليأس.
Source