"خربشات عزّو" لتفتح أمامنا "صندوق باندورا"... معتز صوّاف والغرق في نوستالجيا الزمن الأول
يستحيل فصل معتزّ صوّاف عن "عزّو"، الشخصية الكاريكاتورية التي تشكّل العمود الفقري لأعماله منذ أن بدأ مسيرته في سبعينات القرن الماضي
معرض يقرأ من عنوانه "رسّام خارج الدوام"، ومن فصوله المعلّقة على جدران غاليري WADI99 في وسط بيروت، ومن مطبوعاته التي رافقته، "خربشات عزّو" و"شلّة عزّو" وصولًا إلى عناوين لامست "الثورة".
هو معتزّ صوّاف، الذي يستحيل فصله عن "عزّو"، الشخصية الكاريكاتورية التي تشكّل العمود الفقري لأعماله منذ أن بدأ مسيرته في سبعينات القرن الماضي، حين كان طالبًا في قسم الهندسة المعمارية في الجامعة الأميركية في بيروت. يقدّم نفسه على أنه "هاوٍ"، وقد اختار تجنّب احتراف الكاريكاتور والشريط المصوّر كمهنة، فابتعد عنهما لعقود، وإن لم يتوقّف عن الرسم يومًا، محتفظًا بـ"خربشاته" في أدراج نادرًا ما رآها غير محيطه المقرّب و"شلّته" التي رافقته منذ مقاعد الدراسة. وكأنه أراد طوعًا أن يبقى هناك، في الزمن الكاريكاتوري الأول، متابعًا روّاده المحليين، من محمود كحيل وبيار صادق وحبيب حدّاد وغيرهم، ومحاكيًا مقاربتهم لهذا الفن وإن تأثّر أكثر بحركة الأندرغراوند الأميركية وفورة الستينات، التي تعرّف لاحقًا إلى روّادها، وفي طليعتهم رسّامو مجلة MAD Magazine، الذين اشتهروا بسخريتهم السوداء واستفزازهم المباشر لـ"الذوق العام" السائد آنذاك، إضافة إلى نقدهم اللاذع للمجتمع والسياسة، مع كسرهم القوالب التقليدية في الشكل والمضمون.
وإذا كان فنّانو الكاريكاتور عندنا آثروا مراعاة السلطات السائدة (بيار صادق وناجي العلي استثناء رغم تناقضهما شكلاً ومضمونًا وتوجهًا)، فإن صوّاف اختار نقد الناس والمجتمع والعادات من منظوره الخاص ومنظور "شلّته"، مبتعدًا عن السياسة، حتى في رسومه التي تناول الثورة. ربّما لما لديه في المقلب الآخر من أصدقاء ومعارف وهم كثر، أو ربما لأن السياسة وتعقيداتها ومساوماتها لم تغره يومًا، ففضّل عليها حريّة التعبير الفردية، حتى لو بقيت أعماله حبيسة أدراج مكتبه. فهو يرسم لنفسه قبل أي شيء آخر، مدفوعًا بعشقٍ يقارب الهوس المَرَضي لهذا الفن، منذ بدأ يبني مجموعة فنية نادرة وفريدة في عالمنا العربي من أعمال كبار الرسّامين العالميين من اللحظة الأولى التي "قبض" فيها معاشه الأول، واضعًا نفسه خارج لعبة العرض والطلب، بعيدًا عن شروط السوق والنشر والحساسيّات التي قد تثيرها أعماله.
مقاربته تعتمد على شخصية عزّو المحوريّة، التي تدور حولها الأحداث، يضعها في الزمان والمكان اللذين يراهما مناسبين، وحولها جماعته من العائلة والأصدقاء الذين يتفاعلون معها. هذه المقاربة مألوفة لدى الجيل الأول من الفنانين الذين سار على خطاهم، مثل "توما" بيار صادق، و"حنظلة" ناجي العلي، أو "غراب" محمود كحيل وغيرهم. شخصيّات شكّلت رافعة لرسومهم وأصبحت الدمغة التي يعرفون بها والهويّة التي طبعتهم ورسّخت حضورهم الفني.
إلا أن صوّاف، الذي يمتلك شغفاً بالسرد القصصي نظراً الى جذوره في الشريط المصوَّر، أضاف الجماعة إلى الفرد، وتفاعلت شخصياته في ديناميكية مستوحاة من واقعه الشخصي وعلاقاته العائلية والاجتماعية. وكأنه أراد أن يظل وفيّاً للمدرسة التي نشأ فيها، مستعيناً أحياناً بلغتها البصرية، ليبني – ربما من غير قصد – جسراً يصل بين الماضي الذي ولّى، والحاضر الذي يتجه فيه الشباب إلى وسائل تعبيرية أخرى، مثل الشريط المصوّر والفنون البصرية الحديثة والمنصات الرقمية، بعيداً عن الكتاب والجريدة الورقية. وكأنهم في قطيعة معها، أو في أفضل الأحوال، بنوا عالمهم الخاص خارجها.
ليس غريبًا أن تحمل رسومه الكاريكاتورية سردًا متسلسلًا، يذكّرنا بتأثيره الشرائطي الأول، ما أوقعه في متطلبات تقنية وحرفية لم يعد لديه الوقت للتركيز عليها كما كان في بداياته. لذا، نراه معلقًا بين الشريط المصوّر تقنيّة والكاريكاتور مقاربة في لغته البصرية، يفرغها في "خربشات" تخرج بعفوية من ريشته ومحبرته فوق ورقته (نوستالجيا أدوات الماضي؟)، هي في الواقع اسكتشات أو رسوم أولية تنتظر أن تكتمل. فهو يسابق الوقت، وهمّه الأول الفكرة والرسالة التي يريد إيصالها للمتلقي، وهو ينجح في ذلك. يمكنني تخيّله يسابق نفسه حين تأتيه فكرة وهو لم ينته من إكمال ما سبقها على الورق فينتقل إليها وهكذا، ما يفسّر الكمّ الهائل من الرسوم التي لا يتوقّف عن انتاجها ووضعها جانباً في انتظار يوم لن يأتي ربّما لينهيها في لمساتها الأخيرة. وفي رأس معتزّ صوّاف لمن يعرفه "عجقة" من الأفكار تعصف ولا قدرة على ضبطها.
ما نراه معلّقاً هو نقطة في بحر ما يخفيه، اختار منها ما يراه نموذجاً معبّراً عن المراحل التي مرّ بها، من صرامة الرسوم الأولى لشرائطه المصوّرة إلى هذيان الخط واللون اللذين يرسم بهما اليوم شخصيّته التي جسّدها منحوتة جامدة ورسوماً متحرّكة ونسخاً محدودة الطبع هو العارف بوسائل الترويج والانتشار، وهمّه الترويج لفنون ما زالت تعتبر "هامشيّة" عندنا فيما تفوّقت إنتاجا وانتشارا وتوزيعا أكثر من الكتاب نفسه في الغرب.
وهنا تبرز أهمية مجموعته النادرة ذات المستوى المتحفي العالمي، التي تضم رسومًا أصليّة لأوائل الفنانين الغربيين كما المعاصرين منهم، ومجلات ومنشورات تعود إلى بدايات هذا الفن منذ نشأته نعرفها من الكتب والأبحاث التي نطالعها أو نحاضر فيها. إنها كنزه المخفي، الذي ينتظر لحظة انكشافه أمام جيل الشباب الساعين إلى امتهان هذه الفنون، ودعوة لفتح "صندوق باندورا" أمامهم، ليعاينوا عن قرب التقنيات، والتجارب، والشخصيات الأيقونية التي لا نراها إلا في المتاحف ومطبوعات الأرشيفات الخاصة والأكاديميّة.
إذا كانت رسوم صوّاف تعيدنا إلى مقاربة المدرسة الأولى في فن الكاريكاتور، فإن رسومه المتحركة، التي تحاول إدخالنا إلى عالم التقنيات الحديثة، تعاني ضغط ضيق الوقت اللازم لتنفيذها. وكما هو الحال مع أعماله الكاريكاتورية، يبقى همّه الأساسي هو المضمون الذي يسعى إلى إيصاله، وإن كان ذلك بسرعة تنفيذ لا تتناسب مع متطلبات هذا الفن. فجاءت أعماله المتحركة على شكل عمل تحضيري تكتمل تقنياته لاحقًا، وشخصيته المميّزة أقرب الى سلسلة "تشارلي براون" الأميركيّة رغم الجهد الذي بذلته الفنانة لما بعيون في تحويلها إلى خطوط واضحة وألوان صلبة لجعلها قابلة للتحريك، مما أفقدها نكهة الخربشة التي طبعت هويّته. وكأن "عزّو"، كما يراه صوّاف، عصيّ على التبسيط ومعاند لمفهوم الرويّة والتمهّل، تمامًا مثل خطوطه التعبيرية التي لا تعرف الهدوء والسكينة.
"خربشات عزّو" لمعتز صوّاف، على جدران صالة العرض في وسط بيروت، تأتي في توقيت غير بريء، وبعد حرب مدمّرة تُعدّ من الأقسى في سلسلة لا متناهية من العنف العبثي الذي نعيشه. إنها رسالة واضحة من "رسام خارج الدوام" لمدينة يصرّ على أن تكون مركزًا ثقافيًا مفتوحًا على الاختبار، ولناسها الذين يؤكّدون لمن لا يزال لديه شكوك أن الفن وعشق الحياة متجذّران في جيناتنا.
معتز صوّاف، نوستالجيا الزمن الأول وصلتنا... شكرًا.
Source