عيون غربية تتلصّص على «ديفا» الطرب العربي: يوم وقع متحف «سرسق» في فخّ الاستشراق
يقدّم معرض «ديفا: من أم كلثوم إلى فيروز إلى داليدا» في متحف «سرسق» أرشيفاً بصرياً لفناناتٍ عربياتٍ شكلن ملامح عصرٍ ذهبيّ، لكنه يكتفي بدور «الفترينة» أكثر من كونه تجربة فنية مبتكرة. بين الحنين والتكرار، يستعرض رموزاً نسائية برؤية استشراقية، تخاطب المتفرّج الغربي أكثر مما تُدهش جمهورها المحلي
ليس معرضاً إبداعياً، بل عن مبدعات ورائدات جُمعن أرشيفاً مصوَّراً وفوتوغرافياً وأزياءً وأغراضاً خاصة وملصقاتٍ ومحفوظات ومقاطع صوتية لكلّ منهنّ تحت عنوان «ديفا: من أم كلثوم إلى فيروز إلى داليدا» الذي يحتضنه متحف «سرسق» في بيروت حتى 11 كانون الثاني (يناير) 2026.
فترينة لا معرض
يُفترض أنّ المعرض يهمّ جمهوراً عاشقاً لفنانات هذا المعرض، أو ربما «متلصّصاً» على أزياء وأغراض وأكسسوارات تخصّهن ويكاد يكون اهتماماً نسائياً في شكل خاص. لكن ليس في المعرض ميزة «إبداعية» ندلّ عليها ولا جانب فنيّ خاص. بالتالي، لا يصحّ إطلاق صفة «معرض» فنّي عليه، بقدر ما تصحّ فيه صفة «الواجهة» أو «الفترينة» التي تلبّي فضولاً وربما تُمتع بعضهم أو تثير فيهم حنيناً وتستدعي ذكريات.
أكثر من ذلك، إنّه معرض «استشراقي» بعيون غربية، مصدره «معهد العالم العربي» في باريس الذي يؤدي غالباً دوراً فولكلورياً في ما يعني الثقافة العربية وأعلامها ورموزها. وهذا المعرض واحد منها، قد يفيد كتعريف بفناناتنا الرائدات في المجتمعات الغربية، لا في مجتمعنا حيث نحن على أُلفة معهنّ ونعرف الكثير عنهنّ ولا يدهشنا كالمتفرّج الغربيّ ما يُبسط لنا من حميمياتهنّ وخصوصياتهن وخاصاتهنّ.
عصر ذهبي أبطاله... نساء
في أي حال، لمن يرغب في الزيارة، فإنّ «المعرض» يقدّم بوسائطه المتعددة من أزياء وصور فوتوغرافية ووثائق ومقاطع صوتية، دمجاً بين التاريخيّ والمعاصر، وبين المادة الأرشيفية والفن الحديث، معيداً فتح باب التأويل على حقبة كاملة ومشرّعاً باباً لقراءة عصر فني ذهبي عربي عبر نساء فنانات رسمن ملامح مشروع «نسويّ» عماده الصوت والحرية، الجسد والهوية، الفن والسياسة، وحضور المرأة الفنانة في الفضاء الذكوريّ العام. نساء تحدّين بأصواتهن وأدائهن وأحلامهنّ ومواهبهنّ وفساتينهنّ ومآسيهنّ مجتمعاً سلطوياً وبرعن وحلّقن ومارسن فتوناً على جماهير عريضة بما لا يقاس.من هنا، يبدو «المعرض» نسويّاً بامتياز طالما أنّه مخصّص لفنانات حصراً ولا حضور للرجال إلا في الخلفية والهامش، أو بالحدّ الأقصى عبر مصمّمي الأزياء المعروفين أمثال جان بيار ديليفير ووليم خوري (مصمّم ملابس صباح) وبابو لحود سعادة وإيلي صعب الذي يطلّ من نافذة فيديو قصير عنوانه «تحية إلى الديفا» (إنتاج وإخراج إيلي فهد) على أيقونات فنية ألهمن تصاميمه.
فيروز ومسايرة الشعب اللبناني
المعرض جال في أمستردام وعمان بعد العرض الباريسيّ، ليحطّ اليوم في بيروت مع عنوان جديد لا يخلو من مسايرة ماكرة للشعب اللبناني، إذ كان في عروضه العالمية يحمل عنوان «ديفا: من أم كلثوم إلى داليدا»، ولم يكن اسم فيروز يتوسّط زميلتيها، فأُقحم اسمها بينهما لضرورات شوفينية محلية، ولأنّ معرضاً مماثلاً من دون فيروز لا يساوي شيئاً للبنانيين.
لذا، يمنح المعرض «جارة القمر» ركناً واسعاً في متحف «سرسق»، وهذا أمر طبيعيّ. يحتوي هذا الركن على فساتين ارتدتها فيروز في «قصيدة حب» (بعلبك 1973) من تصميم الفرنسي الذي عاش مدة طويلة في لبنان جان بيار ديليفير والذي أسهم في تكوين صورة فيروز المسرحية في السبعينيات بألوانه الزاهية وخطوطه البسيطة التي تستلهم الزخارف البدوية وتجمع بين تقنيات الخياطة الأوروبية والتصاميم الشرقية. يُعرض أيضاً لفيروز زيّ من مسرحية «أيام فخر الدين» (1966) من تصميم مارسيل ربيز وسامية صعب.
وفي الركن الخاص بها بعض أشرطة الحفلات النادرة كتلك التي تصوّر استعدادات جولة أميركا الجنوبية في ريو دي جانيرو عام 1961، ووثائقي عن جولة الولايات المتحدة عام 1972، فضلاً عن الصور العائلية والسياحية والمسرحية من أرشيف منجد الشريف، ابن المخرج الإذاعي والمسرحي الفلسطيني الأصل صبري الشريف. كذلك، يُعرض بعض من أرشيف «تلفزيون لبنان» وفيديوهات لبعض أغنيات فيروز.
«الشحرورة» هنا أيضاً
في ركن آخر، اسم كبير أيضاً في الفن الغنائي اللبناني والسينمائيّ المصريّ هو «الشحرورة» صباح، الصوت الجبليّ الصادح والأناقة الشاغلة للناس. ثمة تركيز على فساتين «الصبّوحة» التي تحمل كلّها (نحو 400 فستان) توقيع المصمّم وليام خوري الذي رافقها طوال حياتها وفي كل عروضها الغنائية والمسرحية، حصراً.
وكان ظلّها المرافق من «بعلبك» إلى «كازينو لبنان» وما بينهما من جولات عالمية. وربّما تصحّ صفة «الفنانة النسوية» على صباح أكثر من كل الفنانات في العالم العربي، كرائدة في تجديد صورة المرأة الحرّة، التي تجمع الأنوثة والقوة، والتقاليد والجرأة، والفطرة والإبداع.
شخصيات نسائية أخرى
إلى جانب «الشحرورة»، يتضمن المعرض شخصيات فنية نسائية تحدّت مثلها البنية الأبوية في المجتمعات المحافظة، وبينهن سعاد حسني، وليلى مراد، وأسمهان ووردة، وكتبن بأجسادهن وأصواتهن سردية مغايرة. لا يتعامل «المعرض» في أي حال مع الديفا بوصفها رمزاً للأنوثة المتخيّلة، بل يحاول إعادة إدراجها في سياق تاريخيّ يضيء على كفاحها وتمرّدها وتجديدها الفني ومساهمتها في صوغ مفاهيم جديدة للهوية النسوية في العالم العربي.
لكنّ هذا الهدف، أو المشروع الفكريّ، بدا فضفاضاً على مضمون «المعرض» الذي يدّعي أكثر مما يُنجز على هذا الصعيد النظريّ، رغم أن ثمة بعض الأسئلة التي تطرح حول الجسد والغياب والهوية، كما في فيلم «اختفاءات سعاد حسني الثلاثة» للمخرجة رانيا إسطفان الذي يعرض في المناسبة لا كمجرد تحية لنجمة التمثيل والرقص والغناء، بل كعمل تحليليّ لتلك الأسئلة.
في المعرض بنسخته البيروتية، أجنحة لخمس نجمات رئيسيات هن فيروز، وأم كلثوم، ووردة، وأسمهان، وداليدا. وفي جناح أم كلثوم فساتين مشهورة لها أعيدت خياطتها بتصميمات قريبة من الأصل (هل نحن في معرض أزياء؟) في حين تعرض لوردة ملابسها الأصلية مع آلة العود الخاص بها. ولداليدا مقتنيات حقيقية من أرشيف شقيقها أورلاندو. وثمة عمل فوتوغرافي للمخرج اللبناني محمد عبدوني بعنوان «ديفا في دور صباح» عن «الشحرورة» بكونها رمزاً ثقافياً عربياً يجمع الطابع المحلي إلى العالمي، نخرجُ من المعرض بسؤال: أين المثير والجديد والمبهر في كل ما رأينا؟.
«ديفا»: حتى 11 كانون الثاني (يناير) 2026 ــ متحف «سرسق» (الأشرفية ـ بيروت)
Source

