graphic artists in the arab countries

Toshfesh
محمد عفيفة جياكوميتي الكاريكاتير العربي

رسومات محمد عفيفة الكاريكاتيرية التي نصّبها وجعه الضاحك الباكي تأتي بشكل عمودي ينطلق فيها من أسفل إلى أعلى ليكون هذا الأعلى محور اللوحة – الرسمة.


الكاريكاتير ذاك الفن الضاحك الباكي الذي ابتدعه الأوروبيون في القرن السادس عشر، كنوع من أداة ضغط على الكنيسة خلال الثورة الدينية التي عرفت بحركة الإصلاح الديني، له نجومه ومريدوه في العالم العربي ولعل أبرزهم على الإطلاق الفلسطينيان ناجي العلي وأمية جحا اللذان خطّا هذا الفن بالحبر والدم، ويعتبر محمد عفيفة سليل هذين الاسمين المحتجّين رسما على أوضاع عربية وأخرى عالمية غيّرت تاريخ الإنسانية.

الكاريكاتير بما هو فن ساخر من فنون الرسم، كصورة تُبالغ في إظهار تحريف الملامح الطبيعية أو خصائص ومميزات شخص أو جسم ما، بهدف السخرية أو النقد الاجتماعي أو السياسي أو الفني أو غيره. ذاك الفن الذي له القدرة على النقد بما يفوق المقالات والتقارير الصحافية أحيانا، يأتينا على صفحة فنان الكاريكاتير محمد عفيفة الفيسبوكية، مختلفا شكلا ومضمونا.

أعمال كاريكاتيرية طولية على عكس جلّ الأعمال الكاريكاتيرية المُتعارف عليها في الصحافة العالمية أو العربية، والتي تعوّدنا أن تأتينا في شكلها الأفقي المسطّح لتحتلّ مكانا بارزا من بياض الصفحة – الجريدة، فاللوحة الكاركاتيرية عند عفيفة، جلها إن لم نقل كلها، تأتينا بشكل عمودي ينطلق من أسفل إلى أعلى ليكون هذا الأعلى محور اللوحة – الرسمة.

اشتغال عمودي طولي يذكّرنا برائد النحت المعاصر ألبرتو جياكوميتي (10 أكتوبر 1901 – 11 يناير 1966)، فكما تخصّص النحات السويسري الراحل في إبراز أعماله النحتية بشكلها العمودي المرتفع والمتسامي عن الأرض في اتجاه السماء، يقدّم الكاريكاتيريست الفلسطيني الأردني محمد عفيفة رسومه الساخرة بذات التقنية مُنتصبة إلى الأعلى، إلى السماء، إلى الخلود الأبدي.

أكثر من رسمة نجدها على صفحة الفنان محمد عفيفة الفيسبوكية تناولت ثيمة وباء كورونا المستجد على طريقته الساحرة والساخرة في آن، منها مثلا تلك التي تصوّر جدار العزل الإسرائيلي، ببرج مراقبة مسلّح، سلاحه مدفع رشّاش يبخّ من عَلِ فايروس كوفيد – 19 على الشعب الفلسطيني الأعزل.

هنا يصبح السلاح فايروسيا، لا يُبقي ولا يذر، ليحصد أرواح بشر من جنسية واحدة دون سواها، هم الفلسطينيون المعزولون في أرض اُقتطعت منهم غصبا، ليصبحوا هم المشرّدين في العراء، وأولئك الغاشمون أصحاب الأرض بقوة السلاح والمعاهدات وصفقة القرن.

ولأن محمد عفيفة سليل شهيد الكلمة والرسم الكاريكاتيريست المغدور ناجي العلي (1937 – 1987)، نجد في رسمة أخرى استذكارا لحنظلة العلي، عنونها بـ”لا ناجي إلّا ناجي” وأُعنونها أنا بـ”لا ناجي إلّا العليّ”، ذاك الرمز الشامخ الذي أوجده ناجي العلي في الخامس من يونيو عام 1967 ليظهر بإحدى الصحف الخليجية في العام 1969، ممثلا في صبي في العاشرة من عمره، يعقد يديه خلف ظهره، في إشارة للفلسطيني المعذب والقويّ رغم كل الصعاب التي تواجهه، فهو الشاهد الصادق على الأحداث، والذي لا يخشى في قول الحقّ لومة لائم.

قلم رصاص مُرتفع كحال كل رسوم عفيفة إلى السماء، وفوقه حنظلة ينظر إلى الأمام، فرغم اغتيال مُبدعه، لا يزال ذاك الصبيّ الذي لم يبلغ سن الرشد بعد – ربما يبلغه حين تحرير الوطن – شاهدا على جرائم ضدّ الإنسانية لم يُرفع الستار عن نهايتها بعد.

لوحة “الصرخة”، ثاني أشهر لوحة فنية في العالم بعد “موناليزا” دافينشي، والتي جسّد فيها الفنان إدفارت مونك صرخة لشخص واقف على جسر، مثّل فيها الفزع بملامح خائفة وسط سماء حمراء وبحر مسودّ غاضب.

لوحة رُسمت عام 1893، وصفها النقاد بأيقونة الفن الحديث، ورمزا فنيا لقلق الإنسان الحديث، ها هي تعود بشكل جديد في رسمة مُستوحاة لعفيفة، جسّد فيها صرخة مُكمّمة، محاصرة بين أربعة جدران، وكل من كان خارجها وغير محصّن، فهو إلى هلاك لا محالة.

وعلى عكس كل لوحاته الكاريكاتيرية المرتفعة إلى السماء، تأتينا لوحة “إعدام العمال” المستوحاة من لوحة “إعدام الثوار” للفنان الإسباني فرانثيسكو جويا، بشكلها العمودي، لا محالة، لكن ما يدور في الأسفل هو محور اللوحة – الرسمة، هذه المرة. كيف لا والأسفل هو عنوان أدراننا ومساوئنا الجامحة إلى القتل والإبادة والفناء، بموجب أو دونه حتى؟

لوحة رسمها الفنان في يوم العمال العالمي الأخير، غرة مايو 2020، وفيها ربّما إشارة إلى الإعدام الجماعي الذي خلّفه الوباء اللعين بتحالف غير معلن من الرأسمالية القامعة للذات المتفرّدة، للملايين من البشر، الذين أحالتهم الجائحة إما على العطالة المؤقتة وإما الدائمة.

ولأن محمد عفيفة ابن عصره، وابن فلسطين المطلة على بحر الموت، البحر الأبيض المتوسّط، نراه يرسم زورقا غصّ بعشرات المهاجرين، وهم في عباب البحر الفسيح، عيونهم شاخصة إلى السماء التي تمطر صنّارات حاصدة لأرواحهم تباعا.

هذا هو محمد عفيفة الكاريكاتيريست المكلوم في أرضه الأم، وهو الذي كما قدّم نفسه لـ“العرب”، “ولدت عام 1972 في مدينة القطيف السعودية لأب وأم من قرى متقاربة جنوب فلسطين، منطقة الخليل، تحديدا. هُجّرنا إثرها إلى مخيم الدهيشة ببيت لحم، ثمّ نزحنا في العام 1967 إلى عمّان، تلتها غربة مطوّلة بالخليج العربي حتى عودتنا إلى الأردن في العام 1980”.

كلّ ذلك يظهر في لوحاته – رسوماته الكاريكاتيرية التي نصّبها وجعه الضاحك الباكي الذي لن يندمل أبدا، رغم نجاحاته الفنية والتشكيلية العديدة التي وشّحت اسمه بجوائز عربية كبرى على غرار: جائزة ناجي العلي للكاريكاتير السياسي (2012) وجائزة محمود كحيل للكاريكاتير السياسي الممنوحة من الجامعة الأميركية ببيروت في العام 2018.

في العام 1919 سأل جيوفاني جياكوميتي (1868 – 1933) الرسام السويسري “ما بعد الانطباعي” ابنه البكر ألبرتو: هل تريد أن تصبح رساما؟ فكان جواب ابنه سؤالا أيضا، لنفسه وليس لأبيه: رساما أم نحاتا؟

اليوم إن سألنا محمد عفيفة: هل أنت حقا رسام كاريكاتير؟ ستُجيبنا رسوماته عنه: نعم، إنه جياكوميتي الكاريكاتير العربي.
Source