تحليل عميق: صلاح جاهين ١٩٣٠ – ١٩٨٦ مصر
يعد محمد صلاح الدين بهجت أحمد حلمي، المعروف بـ صلاح جاهين، من أشهر رسامي الكاريكاتور في مصر، ورائد مدرسة الكاريكاتور المصرية والعربية الحديثة.
في 25/ 12/ 1930 ولد طفل ليس ككل الأطفال، فكانت عبقريته مدهشة في رسومه وسخريته، ورباعياته. ولم يكن أحد يتخيل في بداية الخمسينيات أن سليل العائلة الكريمة، وابن المستشار، سيخالف التقاليد العائلية ويهجر كلية الحقوق، ويتمرد على كلية الفنون الجميلة، ليقع في حب هذا الفن المسمى كاريكاتور، ويحترف صناعته.
ارتباطه بالشارع المصري جعله يعشق الشعب والأرض والوطن، فنهل من معينهم الذي لا ينضب، وزاوج بين الكاريكاتور والشعر، فاستطاع خلق عالم خاص جعله قادراً على تجاوز الواقع. وجاءت رسومه تضج بالحركة والحياة، والصوت والصورة. وقالوا عنه ان مئات الرسوم التي أبدعتها ريشته، ما هي الا رسائل موجهة الى العالم البائس الكئيب الذي يريد أن «يزغزغه» بـ «ألف مليون ايد» ليضحك معه.
ترجم بخطوطه وتعبيراته البسيطة انشغاله بوطنه وأهله وشعبه، وبنقده البناء وخفة ظله وببساطة السهل الممتنع، صوّر حال المصريين وعبّر عن كل ما يشغل البسطاء بأسلوب يسهل فهمه واستيعابه، فحلق برسومه وكلماته النابضة بمشكلات السياسة والدين والكثير من أمور الحياة، بين مختلف طبقات الشعب المصري، وكانت جواز سفره الى مختلف البلدان العربية.
بدايته في فن الكاريكاتور كانت في جريدة «بنت النيل» في العام 1949، ثم جريدة «التحرير». في أواسط الخمسينيات بدأ مسيرته الفنية التشكيلية في مجلة «روز اليوسف»، حيث تعرف إلى أول حب فى حياته، وهي زميلته سوسن زكي، التي أصبحت زوجته فيما بعد وأنجب منها ولدان.
ومع صدور العدد الأول من مجلة «صباح الخير» في العام 1956، واصل جاهين ابداعه الكاريكاتوري بشكل مختلف بعيد عن الاساليب التقليدية القديمة، ليحدث انقلاباً في عالم الكاريكاتور المصري، ويؤسس المدرسة الحديثة، مع جورج البهجوري، الذي كان سبقه بوقت قصير، وأعلنه ملكاً على عرش الكاريكاتور.
وبرزت رسوماته التي احتل فيها الانسان البسيط أكبر مساحاتها، عندما انضم الى أسرة جريدة «الأهرام» في العام 1962، التي كانت آنذاك في أوج ازدهارها، فكان يلخص بأفكاره الجديدة وجنونه المتدفق، الموقف السياسي السائد. ولقب بـ «فيلسوف الفقراء»، و»فارس البسطاء»، لأنه كان دائماً منحازاً الى الطبقة الكادحة الفقيرة والمظلومة. وظلت كاريكاتوراته التي تابعها محبوه على مدى جيل كامل، باباً ثابتاً في هذه الجريدة حتى رحيله.
عمله كرسام كاريكاتوري، وطد علاقته بالسياسة، فكان مغرماً بثورة يوليو 1952، وقائدها جمال عبد الناصر، الذي تدخل ليحذف اسمه من رأس قائمة المعتقلين، بعدما تسببت رسوماته أكثر من مرة في أزمات سياسية عديدة، لما عرف عنه من ميول يسارية ونقد للنظام. ويقول جاهين انه وقع تحت مغناطيسية الكاريزما الموجودة في شخصية عبدالناصر، فكان مبهوراً به ويراه قادراً على تحقيق
ما لم يستطع أي زعيم وطني آخر تحقيقه.
لقب بـ «شاعر الثورة الأول»، وتعتبر أعماله، مابين عامي 1972 و1985، تأريخاً لفترة عصيبة من حياة مصر، قبل أن تلقي به هزيمة يونيو 1967 في «هاوية من الحزن لا قرار لها»، على حد تعبيره.
أسهم صدق جاهين مع نفسه، واخلاصه الفطري لقضايا مجتمعه، في لعب كاريكاتوره دوراً ريادياً واعياً في قضايا المجتمع. فخلال ثورة يوليو والتحولات التي أفرزتها، واظب جاهين على نشر سلسلته الكاريكاتورية الشهيرة «قيس وليلى» و»نادي العراة» في مجلة «صباح الخير» على مدى ثلاث سنوات، فجعل نساء أعماله الكاريكاتورية يندفعن خارج سياق التقاليد بقوة. بعد ذلك، توالت سلاسله الكاريكاتورية في المجلة نفسها، ومنها: «ضحكات مكتبية»، «في دواوين الحكومة»، «الفهامة»، «قهوة النشاط»، «صباح الخير أيها...» التي تناول فيها كثيراً من الموضوعات الجرئية، لم تكن مطروحة قبلاً في ساحة الكاريكاتور، وتميزت بفنتازيا مبهرة لجاهين، الذي كان في حالة تحد دائم وسباق مع نفسه، لاستنباط أشكال غريبة وجديدة في هذا الفن.
لكن عالم جاهين الجميل سرعان ما تبدل، وأفاق بعد صدمة النكسة، مصاباً باكتئاب مزمن، لم يشف منه حتى رحيله في 21 أبريل 1986، فتوقف عن كتابة الأغاني والأناشيد الوطنية، التي أرخت للثورة المصرية ورصدت مسيرتها، واتجه إلى الكتابة في الشعر التأملي العميق، والأغاني الخفيفة التي ربما كان أشهرها تلك التي غنتها الممثلة سعاد حسني في فيلم «خللي بالك من زوزو». وبلغت مسيرته الشعرية ذروتها في ديوانه الشهير والكبير «الرباعيات»، التي كانت النكسة الملهم الفعلي لها واعتبرها الكثيرون أقوى ما أنتجه فنان معاصر.
لم يتوقف جاهين في حياته عن العطاء والابداع، ودفعته طاقته المتأججة الى ممارسة الكثير من الفنون، فكان رسام كاريكاتور، ومؤلف أغان ومسرحيات وسيناريوهات، وملحناً، وممثلاً، ومنتجاً ظلت أعماله حاضرة بقوة، وشاهدة على عبقرية هذا الفنان المتعدد المواهب، الذي رسخ حلم البناء والنهضة والثورة في كيان الشعب المصري، وظلت وفاته علامة استفهام كبيرة، حول ما اذا أدى الاكتئاب الى انتحاره بجرعة زائدة من الحبوب المنومة، رغم أن رؤيته للحياة تثبت عكس ذلك، اذ يقول في رباعياته: «الدنيا أوضة كبيرة للانتظار...فيها ابن آدم زيه زي الحمار... الهم واحد... والملل مشترك... ومفيش حمار بيحاول الانتحار... عجبي».
Source